قصة : “نبرة حب غائم “

” على سبيل أني نسيتك و أن خطة الزمن نجحتْ معي وأن ما خلف الموت قد يأتي بحياة أُخرى ذات تطلع، ها أنا أتجنب الحديث عنك على مناضدهم، بين شكاياتهم وتذمرهم، أحقق كذبةً كبرى تُرجئك في فراغ النظرة الشاخصة التي في بهوها ذاكرةً أقوى، ومن سوء حظ دعمهم أنهم في كل مرة يتفقون فيها على نزهةٍ تواري معالمك يقعون في مصيدة لازال لرائحة كفك بها عطر (التو) النافذ صريره عبر هدوء تمنحه لي الأمكنة “.

كانت تلك الكلمات مدونة في أخر ورقة من دفترها الملقى على أريكة في أقصى زاويةٍ من حجرتها والمقابلة بذلك لفرجة الباب، سريرها الموحش، خزائنها الخالية، فراغ الحجرة منذ أيام يدعو لنشر أمنية عودتها سريعاً بين جنبات صمت يوخز ويبتسم لذكراها المخطوفة ما بين أُنسِ تخرّجها وحزن كل ما تركته خلفها.

لم أنم بما يشبع رجل عاشق منذ رحيلها، فكل مسافة ما استغرقنيه على الوسادة كان غفوات حمقاء، دوران رحى القلق تحت عينين مغمضتين يضج مضجعي. حاربتُ السهر من خلال ذلك المشهد البارد الذي استسلمتُ له بعد أن طوفتُ مُشتماً أشياء ورود والتي تركتْها متعمدةً كنقمة لذكريات تتخلص منها فتكتمني وكأنها بذلك تَعِدُّ مؤامرةً عليّ، تخلع من خلالها معطفٌ كثّ في صيف رهيب، حمّلها إياه الآخرون وكان جدير بها أن تورثه لشقي مثلي بعدها، اشتقتُ لها بما لم يكن في حسبان قلبي، نوبة الصرع التي كانت تنتابها أمام عيني أيضاً اشتقتها، اشتقت لرجفة كنت اخشى حفيفها بل أرتعبه وأقسم بصمتي أن أتجاهل ندائها في المرة القادمة، عندما تشعر بدوار يصعق عالمها بما يشبه السواد والأخذة الرابية ، ( كان الأولى بكِ أن تطببي نفسكِ من ذلك الداء اللعين و تدعي عنك دراسة الفلسفة و علاقتها بقوانين النفس الانسانية ، إن ذلك أشرف ) كانت تخالجني رغبة ساحقة في لفظها لها كي تكف عن مناداتي في ذلك الظرف القاسي الذي تُحكم فيه أصابع صوتها على خاصرة قلبي وقت صرعة عصرها، تصحو بعدها ، لتنكفى على حسرتها و أنا أخرج بصمت كمن أُعِدتْ له كامل كفه بعد رضة كادت تفقده طرفها ، ثم سحقاً لامرأة تكتب لرجل أمام رجل أحبها ، تمرض أمامه، تسقط مغشياً عليها ، ليرتجف عالمه الجميل بين يديه، برد مسألة . هذا بحد ذاته تزمت إنساني بالخطيئة في حق مشاعر أخرى مصابة ، تنفُسها المتسارع وعضّها المتشنج أيضاً يُرغي من فم القلب ما يُخجّله بعد انفعال النجدة نبضاً مجنوناً.

سماعاتها التي كنت استعيرها كي احتفل مع أنس بعيد ميلاده طوال الثلاثة أعوام كانت تلفّها لي في ورق جريدة عانقها شريطُ ساتان أحمر أعرف أنه رباط بجامتها، نداؤها لاسمي بالشكل الذي يضيع منه راءهُ ليكون ما بين لثغة مهضومة ونبرة مغناة كان أيضًا جنون ارتباط، تُجمّل ما يحدث بيننا بأبسط الأمور المثيرة ، تعد قهوتها في ساعةٍ مبكرةٍ تثير حافظة أنفي التي ماتزال بين الوسائد و الحلم، تقنع النهار أنه بلقائها أجمل فتنهض حواسي و خطواتي الثقيلة بدفع مشتهى، أخرج من أجله للممر كي أصادف خروجها الباكر فبعدها لن أراها إلا متشنجة أو إلى صدفة صباح آخر ألتزم فيها بتباعد المباغتة في ذلك الممر و صناعة روتين يتعلق بجدولٍ اسبوعي أصنعه حسب حاجتي للقاءها وخروجي للجامعة بما يناسبني خاصة أن دراستي في مجال تبعد هي عن معرفة تفاصيله مما يخص الدراسات العليا التي تتيح بعض الحرية في أن أكذب كما يحلو لي. ويحلو للصدف أن تُخلْق، وللكلام أن يُنشأ، والعين أن تُبصر والقلب أن يشرب، تركُها للسكن الليلة قبل الماضية وعودتها لقريتها بين جبال أوكايمدن من غير وداع يُخبر المفاصل أن برد الأيام القادمة شديد وأن العمر الذي أخذته بشبابه واهنٌ ما بعده من أيام، أخذتُ دفترها الذي اعتقد أنها لم تنساه وكوب القهوة الأبيض وشمعة لها كانت تضعها على الأرض لضخامتها، والتي كانت تشعلها في المناسبات فقط، ابتاعتها في ذلك الصيف الذي لم تعد فيه لبلدها .

أذكر أني عدت بعد تلك الإجازة الطويلة في ليلة خريفية باردة كانت فيها تحتفل مع زميلات لها في باحة حجرتها الصغيرة والتي كانت تدمدم من صخب ما تفجره سماعتها التي في حجم القبضة من صوت ، مما أثار السيدة زينب وعائلتها التي كانت تفضل الطلبة المتفوقين في دراستهم ، فتُأجر بناءً على المعدل الأخير وشهادة السلوك الموقعة من قبل مسؤول تثق برأيه في الجامعة، بل وتقدم لهم إزاء ذلك بعض الخدمات الأخرى البسيطة مجاناً ، تقول المجتهد الذي جاء ليتفوق هو بالأحرى نظيف ومتعاون ولن يُثقل كاهلها برائحة عفنة تنبعث في البيت.

وقتها وأثناء صعودي صادفت السيدة وهي تصعد الدرج على مهل وتغمغم ( ورود جُنت ) ، حييتها بإبتسامة المشتاق متجاوزاً إياها و دندنة مفاتيحي أكاد لا أسمعها وهي في يدي من علو صوت الأغاني الراقصة في حجرة ورود، كنتُ في عجلة من أمري كي ألتقط ما بحوزة درج لي كنت أضع به بعض الأوراق النقدية من العملة الاسبانية حيث لم أتمكن من صِرافة شيء منها كأوراق تسد حاجة وصولي المتأخر حينها، هبطتُ مسرعاً والسيدة زينب في وقفتها أمام غرفة ورود تطرق الباب بأدب الـمتأذي الصابر ، كان السائق قد وضع حقيبتي الأخرى عند باب البيت ومضى يشكر زوج السيدة زينب ، امتنيت لذلك و دفعة الأجرة له .

هممت بكلتا يدي على أطراف الحقيبة و رفعتها إلى أن استقرت على راسي بشكل مستوي و اعتليت السلم صعوداً، وقتها انقطع الصوت، استقرت عيناي على ورود كانت في الممر الذي ينصفه انزلاق الدرجات للأسفل، والذي كانت حجرتينا بمثابة جناحين له يجمعها ممر فتحاته تتمثل في بابي الحجرتين و نزلةُ الدرجات ،لمحتني، ابتسمتْ و قطعتْ الممر إليّ حيتني سارقةً بذلك كل شيء، ( انزل الحقيبة ) قالتها و ثغرها يختصر ابتسامة العالم بين كلمتين، تراجعت لنفسي والتصقتْ هي في ذهني وكل خيالاتي.

كانت وقتها حجرتي تعرفني منذ السنتين و هي منذ السنة تقريباً، كانت قد طرقت عليّ خلالها الباب مرة واحدة وطلبت مني أن أساعدها في تغيير مصباح السقف الذي يعلو كثيراً، وأثناء ذلك حدث ارتطام قوي بعد صرخات متقطعة كانت استنجاداتٌ فسرتُها لاحقًا، لتظهر مغشياً عليها تعاني الرجفة والصمت القاتل، ومنذ ذلك الوقت رأفة قلبي بها تستجيب لتلك الصرخات واعتادتْ هي ترك باب حجرتها بلا قفل ، في كل مرة أراها يتكرر شيء لم أفسر كنهه ، قبضَ على إحساسي بها بكل عواطفه ، و هاهي رحلتْ ، رحلت كي تلقن الحب درساً آخراً في الوفاء .

ورود عندما توحدت في هذه الحجرة كانت من أجل أن تحافظ على ذاكرة رجل في حياتها، كانت تحب أحمقاً تركها في درب شائك كل التخلي كان متاهته. تسللت من بين طالبات السكن الجماعي كي تبر الحب بشكل يناسبها و يحرر الألم رجفات تأكل منها بهدوء .

( لم تشأ أن تودعك ، فقط أوصتْ أن لك ما تشأ من حاجيات حجرتها، وذهبتْ ،لقد أنهتْ دراستها ) قالتها السيدة زينب بعد عودتي مساءً، دخلت الحجرة بعد أن تركت لنفسي فرصة التصديق أنها رحلتْ ، و ها أنا أجرح ذاكرتي بتقليب ألمي بها غيبياً ،وأثبت فكرة غيابها وما قد إلتصق بي.

اكتب تعليقًا