حديث مرآة ..

لم أقرر تلك الكتابة في فسحة من الشعور، كما اعتدتُ أن أندلق منفوهة صناعة الوقت والتروي معًا في كتابة أنويها لك، كانت الحاجة للبوح أقوى من انتظار المساء وانفعال الانفلات على منحدر السطر الممتع، وحيدة في مدينة حبري الذي هيئ كل الهياكل لخدمتك تحت ضغط فكيّ البوح الذي لم ينتظر.
علمتني المواقف الكتابية أن كل حاجة للبوح تنتظر جاهزية تخصها، اشتعال يحتكرها في مأمن الهدوء الذي لا تشتد فيه قبضته إلا على راحة الفراغ القاضي بالتأمل الذي يعْلقْ، وأرسمه وأخطط له قبل الصراع مع ما يزدحم، أو تلبُّك ما استعسر اهداره في لحظة السجن والقيد، أو تطاير ما يكون ثورانًا شعوريًا استفز الحزن وحدته. رغم أني أعود لسحب الوشاح على كتفي ما بين حين وآخر، كمن يعيد للحظة التعقل بمرورها المسجل، أناقض نفسي بنفسي تحت التأثير.

افتني ! افتني في أمر ما تعض عليه شفاه الكلام إثر نبضات تُثبتْ لقفصي الصدري هشاشته في الاحتواء أو التعبير عن فكرة التيه في غاباتك المتعاقبة!
عن حراكي الذي يسترعي تلمس أقدامه وتحسس قواها بعد أعوام المكوث في فصل حب واحد.

اللاجئون في الحب حيرى لحظات وطرق ، في كل درب تضطهدهم كلمات مقيدة وحرة على سواء الشعور ومظانه، يبني لهم وسع الشوارع الرئيسة وهم الرؤية البيضاء الذي يضيع أمنها لِـ نصاعة مفادها القاطع.
لن نختلف ؛ فقد يكون أمر هذا التفصيل خاص بشخصيتي، بغرابتي، أو بتوقيت البوح والانفعال معًا !
أممم ، ما رأيك في إذعان الصمت الذكي؟
ما عاد للصمت لغته الممتدة بأبعاد الخيال والحوار وطيب الأعذار وبلاغة الامساك وفن الانسكاب، ما عاد للصمت جوهره الكلامي الممتنع ذا الدلالة، الصمت بات اليد المبتورة التي تطلي جدار الرطوبة بدهان الحلم الضائع بين اللاشيء والعفن الطاغي رائحته. أو أن الأمر سيان ، مجان، و تحدي باق ما بقي القلب في تحديقه والحب في شغبه؟
وإلى جانب أني أدرك أن التحذير دومًا ما كان يختص بالثرثرة، والثرثرة فقط إلى أنهم عندما زرعوا بذور هذا اللكنة في طبعي لم يعلموني أن الكلام له مصادر عدة، فاللغة تحملتْ بشكل صريح وصفهم ذا الفعل المشين، ولم يخبروني أن الأعين والقلوب قد تثرثر، بل وقد تسهب وتحكي ما لا يقال بالشفتين.القلوب أيضًا تفكر، تقرر، وتموت أجزاؤها وقد تقتل بلا قاتل فعلي .. أتعلم هذا؟ ، لكن ما قد أتمعن في حقيقته الآن هو هل للقلب عقل؟
سألت مرة فتاة المرآه !
فقالت : “أدركتُ أن له جنون فهل نؤمن بالضد على سبيل الإيمان بالفعل؟ وهل الحب إلى هذه الدرجة منفلت من معناه النقي إثر تداخله مع مشاعر أخرى وآثار تطغى لتهب للحب صفة لم يكن بالغها، ودرجة لم يكن ليعتليها لولا تعريته الصريحة في أنه أصبح بليدًا، مرهون بالشعور المجدد في أواصر رؤياه وتجليات خلاياه.
قد نصف القلب بالنزق أحيانًا في استشعاره، في إفراطه، في تورطه، القلب طفل، ردة فعل ليس لنا محور تحكم في طوفانها ولا انجذابها لإحدى الجهات التي قد تميل نحوها، وقد استحسنُ وصفه بالدائخ دومًا وليس بالكائن المستوطن كما تصفين أيتها الحقيقية.”
رغم هذا وذاك أنا لم أكتبك بعد، لم أكتبك كما الحالة الحرجة التي يرتجف بها قلبي ويبكي، والذي يقف على دكة ضيقة مسنود بقدم وحيد والتصاق ثابت، تحسسُ وجهي لبلل النقطة الزرقاء حوّل أمر الرعاف المنفجر إلى حبر ليل يستعيد معي قوى صمته ووجع مرضك .. على كتفي الذي خار عن حراكٍ وحملٍ واستعادة وشاحٍ سقط عنه.

يقال في الهدوء تكمن القوة، وأنا مغلوبة بتسرع مد إصبعه لمفتاح الشعور وكتب.

مغاليق كلم ..

بعثتُ مرة على قارب من ورق أحاديث ساخنة، قصدت اغراقها عمدًا، قلّبت حمّرة الصرخة بين موجتين وعلى نفس السطح العائم بثثتُ للـ تنهيدة طاقة سيّرت الحبر بقعة مذابة ،صعد الدخان يومها مرئيًا وعلِق ذلك الغرق في عيني ولفظت أنفاسها الورقة والبقعة بقيت رثاءً مصبوغ ، عائم ، يبحث السطح له عن صوت.

خمنتُ وقتها أن صاعقة ذلك الفصل ما كانت إلا وصمة الصوت الذي التقطته قطرة المطر التي صافحت البحر ذلك الموسم الفاصل والبارد.

أحاول ألا أكون حزينة، أنفض صيف الشعور وأعقد مع الشاي والكعك و النباتات صفقة ملهمة، أحاور أعين القطط وأصوات الطيور وساقية الصبح. الكتب عادة تبعث على الحزن إلا أنها تمد بنوع جميل من الحياة، تلون أحزانك .. نعم تلون الحزن .. هذا التعبير مناسب جدًا .

أحاول أن لا أثير في الكلام مِبضعه، فلا اصبع تكتب ألمه ولا عين تماشي فيه ملحه، أمنح للوضع هزهزة استرخاء ولا أناول اللغة مشاعري إلا وهي تحت سنديانة خضراء، كل ملامح اللحظات في غفوتها تحيي عشية باردة، فكم أيام العمر إن جاءت بتاريخها حسبة ومحاسبة ؟

المواسم أيضًا تفرز نوعًا من الملح.. أفكر بشكل قد يكون مدعاة للقلق .. ما علاقة أحزاننا بالمواسم؟

عقلي يضعني أحيانًا أمام أسئلة لها أعين ذاهلة .. التفاصيل تعني التعب غير أنها في مكان آخر تعني الرحمة. هذا ما توصلت له بعد الرقة التي وضعتني على سطرها هي اللغة وحكاية التعبير.

حبسة الشعور وفورة الحزن تترافقان عادةً، إلا أن لها أذان صاغية تسكن على رف الكلام وإن كان الصمت ملاذ، أو هندمة أو أدب مع الصبر ، حتى سكون البحة في مجراها تلافيف سطور، عجين كتب كما اسلفت .. قرصها الناضج وجه أكلته السنون .. كل تلك السنين والأعمار والقصص خبز محترق.

لا حزن .. الصبر يفرد قواه، يتآكل على ظهر يشد ساعده كلما غلب الثقل هرم اليوم الطويل،والساعة المقبلة.

كمن يهزه غسق حَلِكَ لانتهاء قصة، أو بداية حرب أو موت أم أو ولادة طفل مريض، الحزن قد ينخفض منسوبة بالاعتياد .. أحاول أن استسلم للفرح بمعناه الواسع الذي لا يوافق شغف أجنحته ضوء اللحظات .. وأنكر على أمي ملاحظة جارتها المبتذلة التي قذفتها على صدرها بأن بريق الحزن علامتي الفارقة التي اعتادتها، سأحاول أن لا أكون من أولئك الخافتون الراسخة مواجعهم في تحايا الصمت وحبسة الشعور وثورة المعنى.

لطيفة هيف