” الغرق استنجاداً بامرأة “

ما زلتُ أحاول أن لا أكون سخيفةً أمامك ، أن أنهض ، أقاوم ضؤل الطفلة فيّ ، أخلع عن جبين الحياة حاجةً ملحة تنظر إليك في صغرها كي تبدو الناضجة كامرأة ، كقول واضح ، كعلامة فارقة ، كحدس صائب ، رغم الصوت المتضاعف على لسان القفزة الأصغر ، رغم النداء العالق باسم الحلق الأضعف ، القدرة المسلوبة من ساقيها .

هكذا هو النظر للبعيد ، لعينيك ، للاشياء الخارقة عندما نؤمن بوجودها أمنيةً نقفُ عند بابها الذي نعلم أنه لم يكن ليُفتح إلا لشهقة قدرٍ يجد نفسه ، يتخلق ، يتكون ، يتواجد ، ينبت ، يتفتق سطراً ، واللقاء فيه بدفع التضرع خلف التضرع ، هذه أنا ‫لم استطع بكل بساطةٍ إلا أن أحبك ، بلغة الانتظار المبهمة ، بمعراج القراءة المصفّر ، بنية الوفاء المعمر ، بقدرة النبض اللإرادي ، إنها تصعد في إعوجاج النواحي بين إصبعين ، تلج مخارجاً تُلي على نواصيها تعاويذ تَقرُ بالديمومة ، اشتعال النبرة في صمتها نزوح كلم ترمش عينيه ، تتلمس يده قلبي من حيث لا يتكلم .‬

‫هيا قُدّ فيّ رجليّ القول الحافي .‬

‫نفثُ الصبر من عود المسافة يزيد اشتعال القصيدة في عثرها ، يغلق دفتيّ النسيم عن مراوغة المتنفس العجيب ، و شاء الصبح في شِّعره ، أن غيوم الدكانة هي ما تلفظه مسافة الريق من اشتهاء قبلة، و اجتراع حب ، رغم المطر / البرد ، أكاد لا أرى من النور غير انكساره على صدر السقوط الذي يهزُّ جذعك على صمتي ، فهل تصدق ؟‬

‫هل ترقص معي ولو قليلاً ؟‬

‫إن المواربة خلف نسيان لا يؤصد عن أخره باب ، يهبُ الاسئلة خلعاً في مكان الرجفة النابضة بين جنبين ، بين دأبين .‬

‫فكيف أنساك ، كيف لا ترتهن الروح لمن علمها الحب يوماً ؟‬

قد ينتبه أحدهم لجزيئاتك الطافية ، تلك التي حاولت جاهداً في تماسُكها أن تبدو حقاً صاحب صوت وإن كانت الخصلات البيض التي تعتلي رأس الجواب قد وهبتك وقار ما قد تشظى بغية كونك في كونك .

إني أشتاق من اسمي أن ينمو به نداءُ واحد ، كأن أوهم أذناي بسماعٍ يأتي من جهتك ، تقرع نعال الخُطى طريقه ، أنت كلهم حين حضرتَ وحدك .

تكونتَ رِهاناً تُغمضُ على رقته جَفْنُ السُحب مطرها، تبحثُ في الطفلة عن رحاب الرقص و حروف اسمِها وأنا التي توارتْ تبحث في البلل عن نعليها .

قصة : ” مسحةٌ بِـكُمّ الوجع “

تنهر عينيه بمجرد نظرة ، فيمتثل لصمتها في الحال، يخبرها بإيماءة تنبهٍ أنه لم يكن يشاء أن يراها و لو علم أنها ستسمعه لم يكن ليتحدث أصلاً ، يتجاهل الجهة التي كانت تنظر منها إليه، يتعمد إبقاءها خلف ظهره الذي يرسلهُ علامة حجب وردع غير مسؤولة، ويمد يده بعنف يلتقط بها دلو حسام من يده ليستطيع صنع سبب يستحق الركض له بعيداً عن ذلك المكان الذي يحطمه بقبضةِ وقوفها أمامه، والذي تنظر فيه أعين سهى إليه باشمئزاز طوال تلك الأشهر التي عقِبت الشتاء الذي كان في اعتباراتها أحن الأيام رغم قسوته، عرفت سهى أنور بعد عمله معها في خندقة ممر لمياه الأمطار التي اجتاحت دارهم فكان لابد من تصريف لفيضانها المندلق عن صفيح السقف الذي خرج ميله عن الحافة الخارجية للحائط ، مما حدا بأنور أن قصد الزاوية مخفضاً رأسه وأخذ يحفر بتوازن يستقيم له خندق جانبي ، فصنعاه معاً وأوصلاه بالممرات الخارجية الأكبر بما قد يشتبك مع مصارف أخرى للمياه وتسريبات المزاريب من بيوت أخرى مصطفة. كان لدى أنور بعض الخبرة فقد عمل في مساعدةٍ لرجال المخيم عندما قررت إدارته عمارة الغرف بحوائط حجرية أكثر صلابة من الخيام، لتتحمل صفق الرياح وبلل الأمطار ، فبادر بصمت لمساعدتها في ذلك اليوم عندما كان خرير الماء يَصْب صباً جهة مرقدها هي وإخوتها، منظرها وهي ترفع اللحاف المهم جداً ليلاً على حبل الغسيل خارجاً كي يجف أمام بيوت بُنيّتْ بنظام الصف الواحد كان منظر المستميت على ما تنوي رميه على حبل موثق يقطع الممر وسط نَهر الكبار بأن الحبل لن يتحمل ثم تكوّم اللحاف في آخر الأمر بثقله على جسمها الصغير، في وحل ما بين قدميها .دفعه هذا بكل حنو لإيجاد حلٍ كالحفر والبحث عن صفيحة زنك أوسع و تثبيتها بعمود خيمة أثقل ، وعجن الطين بالمطاط المذاب، لسد فتحاتِ ما يمكن أن يتسرب منه ماءُ هطول آخر بعد ذلك، أصبحت قيمة الحياة في عينا أنور هي عيشها بلا جوع ولا برد يمكنه أن يهز مضجع المؤمن بدفئ أن يبقى له حب في صدور الآخرين .

استحداث الكبار لِأوامرٍ جديدة، منها الذهاب إلى أبعد نقطة ممكنة في المخيم لقضاء الحاجة كان تكليفاً شاقاً خاصة على كبارالسن وصغاره، كانت سهى منهم والتي تقطع المسافة بشكل ممل برفقة أخيها الصغير فانعدام البنى التحتية أورث النزوح مضامينًا أشد بؤساً لما قد طال الأهالي من جروح وآلام وأمراض أفقدتهم الأمل في العودة والشدة في اتخاذ ما يمكن أن يحفظ ويحمي ما بقي، وذلك في وجه اجراءات حكومية متعسفة واضطهاد ومعارك واعتداء ميلشيات وجراء كل ذلك تحولت تلك المخيمات إلى سجون كبرى، ملاجئ تحاكي الأسى ، يُحرم فيها حتى دخول الأقارب ومساعداتهم لذويهم. لم يكن أنور اليتيم الفاقد أبويه فحسب ، عندما جاء مع جار لهم إلى المخيم، بل كان الطفل الذي لا ينطق إلا بصعوبة حمل الحروف على ظهر لسان أثكل، يزيده نطق الحرف تلعثماً كلما عجز في التعبير فتخرج كلماته بشكل مدوي بلا ملامح من فمه الذي يبدو أنه لا يعرف إلا النَهر والصراخ وأحايين كثيرة يفضّل الصمت الذي يرى فيه عبء الكلام أثقل وأفض بجانب سوء ما قد يريد قوله، يعمل حمّالاً للنساء اللآتي يحتجن من يساعدهن في الابتياع أو حمل ما يصنعنه في البيوت ويبعنه في الساحة الكبيرة ، هو يعمل لمن ستطعِمهُ وجبةً في ذلك اليوم والتي قد لا تُشبع ، لكنه بذلك يتقوت، يتخلص من فراغ الركض والمعِدة والمناورات التي يقمنها عليه صبية السُبل والممرات، بعدما حدا بمدير مدرسة المخيم عن منعه من دخول الفناء الذي كان يضم غُرفاً أحاطت بحدود مساحة حرة خُصصت لتلقي التعليم واستمرار الأطفال في التعلم و تطوير القدرات القرائية والكتابية ولو بأبسط المعطيات وأسهلها، منذ ذلك اليوم وكل الصبية أيقن أن أنور بلا سند ولا يستطيع الدفاع حتى عن نفسه ، شراسةُ سُهى معه محيرة للأطفال والتي ظهرت مؤخراً هو ينتفض لمجرد لمحها، يغافل في الموقف وجودها ويذهب سريعًا، سهى كانت الأم التي لم تلد ولم تصل بعد لسن التكليف ، تدرعت منذ ألقى بها عمها في ذلك المخيم فهي الراعية الأولى والأخيرة لإخوتها ما أن أحضرهم إلا وذهب مأموراً في مهمةٍ غيبته بعد وعدّهِ لها بالعودة والهرب بهم بعيداً ، جمع أنور بسهى دارٌ حجرية خصصت لفاقدي الأبوين ، كان يصغرها بسنتين تقريباً ، كان يتكور في كنزة صوفية من أثر البرد والذي لم يكن يمتلك معها ضده إلا بنطالاً بلون كتاني يخبر باتساخه، كنزته التي انسل من جانبها الأيمن خيطٌ فُتح له فماً يتسع مع كل حركة يشتد فيها طرفها الحائر وكانت سهى في ذلك البرد القارص تلمحه وتجمع إخوتها في ركنها الأقصى، تضمهم في لحافهم الخشن، تجعل منه في ذلك الصقيع ادفئ مكان وأنعم وثير قد يجمعهم، رغم بلل البسط المنتشرة في المرقد الذي لا يجف، والتي قد ذابت ألوان زهرياتها ما بين بلي واضمحلال أقرب لتلاشي من مجرد تحريكها حيث تتبلل و تجف في نفس الامتداد بلا عون يكفل لها التهوية، كان في أخر قطعة امتدت من تلك الفُرش المتطابقة بلا اتفاق يقبع مكان لأنور ينام به، يجاوره كاظم وحسام وعلاء وأخت لعلاء تدعى فاطمة، نظرت له سهى وقررت رقع كنزته، طلبتْ ذلك منه نهاراً فقد تُطيل عليه ويبقى بذلك عرضةً للبرد، خلعها ظهراً وانتظرها واجفاً حتى انتهت، رآها أمه التي غرقت في دمائها أمامه لكنه لم يستطع حتى اخافتها بدمدمته الكلامية ليخبرها بذلك، صمت ممتناً بفرحة ارتسمت على ملامحه كلما رآها، يُجددها لها كلما لاحا بلقاء تتصادف فيه الأعين والنبضات، عرفتْ مؤخراً أنه لا يجيد الكلام لظنها قبلاً أنه لا ينطق البته وذلك بعد ما صُعقتْ من طريقته المخيفة وهجومه الغير مبرر على كاظم الذي مُنع مؤخراً من قسم الأطفال وحُوّل إلى حجرات للبالغين، مكثت سهى كثيراً واقفة حتى بعد انفضاض الحدث، فهمتْ أن كاظم سبب أَذىً لأنور لم تفهم كنهه، اقتربت منه وسألته، كان ما يؤرقها هو كيف تحذَر على إخوتها منه .

– ماذا حدث ؟

– (أشار بيده بدفعةٍ شديدة يوضح من خلالها أنه كاظم من اعتدى)، كانت كنزته قد انفتح لها فماً أوسع في مكان آخر، مما قد رتقته له في المرة السابقة، ودوى بنبرات مختلفة كان يتقي فيها عدم انزعاجها لبهيمية فصحه، ثم صمت ، مقطباً حاجبيه ومضى مبلل بطريقة تثير الشك.

كاظم كان من الثمانية عشر القانطين في حجرة سهى كان من الجانب الأيسر الذي لا تختلط بهم هو وأنور كذلك فقد كانت تتجنب الصبية كلهم إلا من هم في سن إخوتها ممن تعمل في حياكة الصوف بينهم، حياكة تساعد بها جارة الدار، التي تُنقدها مقابل ذلك ديناراً كاملاً. في أوائل الصيف نُقل أنور من قِبل إدارة الدار أيضاً إلى قسم البالغين، و اصبح الشرب من الحوضيات أكثر من ذي قبل فهو المنقذ من قيظ النهار الملتهب، بدل الدلاء التي كانت تُملأ من آبار قديمة قريبة سرعان ما نضبت، أو الوقوف في طابور طويل أمام حنفيات مربوطة بشبكة مياه صالحة للشرب بتنقية الترسيب ومعالجة الكلور، تبِع ذلك العطش مراقبةٌ كانت سهى لا تتركها لأنور في كل خروج تذهب فيه لجلب الماء للدار، وخلال الوقت الذي تقضيه بجله خارج الحجرات التي لا يُطاق حرها، ونتانة ما تجف عليه محتوياتها بعد تسريب أسقفها، كانت تفتح عينيها لتفسر اسئلةٍ تلحق بصمت أنور وتهربه منها، لاحظت تجنبه لكاظم، لا يحاول الاحتكاك به، رغم تحرش كاظم الاستفزازي له من وقت لآخر، إلى حين ظهيرة خرجتْ فيها سهى تجفف حذائها بتمديده في أوار شمس بعد معركة حصلت منها على قطعة ثلج كان مكتب المساعدات قد عمل على توزيع عينات منها فاستطاعت الحصول على شظية بعد أن سقطت القطعة جراء خصام عليها، فقبضت على أكبر جزء و ركضت به بعد أن ثنّت قماش تنورتها عليها و ركضت به لحافظة الدار، همسُ الحوار الخفي الذي كان قد شد انتباهها قبل دخولها الدار أعادها له بكل حذر، كانت عيناها تلمعان وفمها مشدوه، تحاول أن لا يخبرش تنفسها صفاء إصغائها لما هو بينها وبين الوشوشة، تقدمت فكان كاظم وأنور وبين أيديهم مغلفات متشابهة، كانا قد سطا على سكن موظفي منظمة للمساعدات الصحية وقت نفورهم لولادة متعسرة في أطراف المخيم، ادركت أنهما الهامسين المختلفان على من يأخذ الدولارات أو مغلفات الأطعمة الجاهزة للأكل بعد غليها، فالدولارات ستكشف أمرهم، تبادرَ لفهم سهى كل شيء وتقدمتْ .

– “أنا من ستذهب بها إلى مكتب الصرافة “، كانت تعرف القائم عليها هناك والذي كان حارساً لمتحف سُرق كل ما به “لكن بشرط أنا شريكة العملية القادمة بالمناصفة …”

اكتوبر2017