قصة : “رفقًا بما هو باق “

عاد إلى حيث منضدة الكتابة التي استهل عليها كتابة مخطط الرحلة التي قررها أروبية الوجهةِ ، فجئةَ نهوضٍ مزعج ، اكتشف بعده أنه يحتاج إلى فترة ابتعاد يستعيد فيها ماضيه وقواه الذهنية التي بدأ يشعر باضطرابها نتيجةً لغياب كوثر التي تركت المكان ولم يعير ذلك أدنى اهتمام في اعتباراته بادئ الأمر ، والذي كان قبل أسبوع من تاريخ هذا اليوم البارد من آذار ، فقد بدأت الرياح تأخذ شكلاً أكثر جدية في نفض الأشجار وتعريتها الصابغة للطرقات ، باللون الكتاني الشاحب ، تتهشم فيه الأوراق والحشائش تحت صنادل مفتوحة بدأت تتغير إلى أخذية مغلقة كلما تعاقبت الأيام بدخول وتغير في الطقس ، لتتقى جفافًا وبردًا مقبلين .

” اتحدت كوثر مع هذا الفصل المقبل بذبوله وتركتني ” قالها مدمدمًا قاطعًا الممر الخارجي المنصف للحديقة الذي اقترحت كوثر تظليله بعمل أعمدة مقوسة تجعل منه نفقًا عميقًا وقد إلتفت بأذرعه المتواصلة بشكل نفقي أغصانًا لولبية متسلقة أكسبته خضرة ممر أدغالي مهيب ، أبسط ما يقال عنه أنه الآخر حديقة بشكل ممر ، تتوزع على جوانبه أصص بعض الزروع والأزهار ، مما لها رائحة عطرية ونكهات غذائية كالنعناع والزنجبيل والميرمية .

سكان البنايات المجاورة يقدرون لها تلك البادرة الإنسانية داخل مدينة غزها الإسمنت والأسفلت بشكل جائر .

” جواز السفر يحتاج للتجديد وقرية تحتفل بزواج ابن خالي هي الأحق بالزيارة . كوثر ورحيلها الأرعن يجب أن أشغل ذهني عنه ، التفكير بهدية لبسام هو الأكثر حيوية الآن ” قالها مرتبًا مهام ما قبل صعود الطائرة .

دخل متجرًا على الطريق كان منظر ” الفاترينا ” والتي إختصت بعرض معاطفٍ فاخرة قد شد انتباهه وقرر وهبه واحدًا منها بغض النظر عن ملائمة المناسبة لذلك الاختيار من عدمها فهو مقبل على حياة شتوية توصف بعكس ما يشعر فيها ، ” الدفء لا يكون بالزواج إنه لا يكون إلا بالمعاطف ” قالها حانقاً على عرفٍ رَآه أبله .

بدا في اليوم الآخر رجلٌ مستعد للسفر ، في يده حقائبٌ معتدة ، وعلى عنقه ربطة لم يرتديها منذ غادرت كوثر والتي كان لا يهتم بها إلا في المناسبات الكبيرة فقط بعكس كوثر التي تشدها له بأريحية الأناقة الدائمة التي كانت تحرص على إبقائه عليها منذ دخلت بيته عروسًا تقليدية ، اختارها له ” ابنه الأمريكي ” حيث كان يصفه أهل البناية التي يقطنون فيها ، وذلك حسب ما يعتقدونه ، وكناية عن شعره الأشقر النافر بشكل مُشعث وعينيه الخضروان والتي ورثها عن أمه الفرنسية ، التي بعثت به بعد ولادته ليعيش في كنف أبيه الذي أثقل عليها بحمل مبكّر وحياة ريفية لم تتفطن لمساوئها أمام حب مراهقة متمرد ، وأمومة هي ليست أهلاً لها ، عاش كريم مطيعًا متفوقاً كاسباً لأصالة أبيه وجده الذي حرص على شطب أثر ” الفرصاوية ” كما كان يسميها في ذكريات لابنه المتهور والتي كان يشتم نزقه وطيشه في الزواج منها ” كمراهق لم يعرف أبوه يربيه واشتغل بضيافة أهلها في البلدة التي كان يعمل عند عمدتها ” .

جودت لم يعرف النساء بعدها حتى التقى كوثر ، أشتغل برعاية أمه حتى ماتت والتي عانت تجلطاً أثقل جانبها الأيمن تماماً ، لمدة ثمان سنوات ثم رعاية أبيه ، الذي لم ترضَ امرأةً العناية به كأب زوج لن يستقل عن أبيه ، في حياة يومية لما قد تدهورت به حالته من “زهايمر” تبدا به بشكل مفاجئ جعل حالته تسوء تبعًا ، لعدم تعاطي الأب لدواء يسكت فم الهذيان والذكريات القديمة ، كانت وصية الأب له أن يتزوج ويكمل اهتمامه بابنه وتعليمه على أكمل وجه ، والذي به سيشق طريقًا واسعًا ومريح ، مات الأب وقرر ابنه الهجرة إلى المدينة مصطحباً ابنه ، اشترى البناية النائية عن التجمع السكاني القريب بما يجعل مبلغ الشراء أقل من مبنى استثماري وسط التجمع ، فهو لا يشترط الاستثمار والربح السريع بقدر ما هو يخطط لراحة يستجمها في بقية ما سيعيش من عمر . واقتراب ابنه مع جامعته كان أمراً مهم بالنسبة له ، التي كان يقطع لها مسافة المئتي كم ، من البلدة كل عطلة أسبوعية يقطعها للاطمئنان على جده وأبيه من ذلك السكن الطلابي الخاص ، كان انزعاج جودت وضجره من فترة لأخرى بسبب السكان الغير ملتزمين بالهدوء غير ما اعتاد ملاك البنايات الشكوى منه ، كتأخر الدفع الموسمي للإيجار أو المرواغة بإنقاص المبلغ لأمور التصليحات المستمرة ، كردة فعل للصخب الذي يعول عليه جودت في إحداث الخراب والتعطل ما دام الصوت والعربدة الطفولية التي يسمعها قائمة ، فلابد لأثر يقع نتيجة ذلك .

كوثر التي أحبها كريم كشعور جديد لم يُفسر منذ دخلت بيتهم كان يصفّ دائمًا مع كوثر التي تشبه فيه حبه للحياة وتجديد منابعها بخلاف جودت الذي يقف دائمًا في وجه المبالغة التي لا تخلف إلا استمتاعًا وقتي كما يقول والذي جعل من صبر كوثر أن ينفذ كأخر ما قد تهبه صامتةً وتذهب لشقتها التي ورثتها عن زوجها المتوفي منذ عشر أعوام ، إثر حادث مروع .

حيث قضتها وحيدة بين عملها في جمعية تطوعية تهتم بالأيتام وتوزيع الملابس المتبرع بها بعد غسلها وإعادة تهذيبها وتغليفها كقطع جديدة ،

إلى أن توقف دعم تلك الجهة من قبل السلطات التي رفضت التوزيع العشوائي وجعل في الأمر شبهة والتي ايقظ بعض المهتمين حساباتها في مناحي للأمن وجهاته ، للتمويه عن السبب الرئيس فيما قد يفسد ذلك منتجاتهم ذات الجودة المضروبة جعل من هذه الجمعيات منافسًا يجب دحضه عن طريقهم .

جاء عرض الزواج بعد ذلك متخمًا بالدعم من كل من هم حول جودت وكوثر من الجيران والأصدقاء والمعارف كشخصين عازبين يصلحان لبعضهما حسب مايراه كمالهم ازاء نقص العازبين ، مما جعل الطرفين يتقبلا الفكرة ويدعمانها بالقبول الغير مشروط .

لم يكن اتحاد كريم مع كوثر أمام جودت إلا فعل هو راضي عنه ، كي تغلبه آراء كوثر باطمئنان يوده ، فيكون لابنه فيها وجهة نظر أقل ما يقول عنها أنها رجالية ومن طرفه الذي هو من صلبه ، كي لا ينكسر له كبرياء أمام إصرار كوثر وصمت كريم إذا حدث ولَم يكونا متفقين ، فيشعر ببلاهة الأب واقتياد الزوجة وازدراء الذات .

موافقته على تغيير سيارته التي ارتبط بها روحيًا كان مما قد أملته عليه أرائهما المتحدة وبيع بيت والدته المهلهل ذَا الشراكة مع خاله والذي رفض التفريط به وابدا استعدادًا لشراء نصفه الآخر ، مما قد لا يجني بفائدة قط غير الوفاء الروحي ، وتشجير الممر وتغيير طلاء الجدران الذي لم يبلَ بعد .

إلى أن وصل الأمر إلى التدخل المباشر في طريقة اللبس وعادات الطعام واختيار العطور ، مما حدا بجودت إلى الانفجار في وجهها وطرد ذلك الكابوس الذي قلب حياته وشتت ذهنه بين ما يريد وما يجب عليه حيالهما كأبن وزوجة ، وما قد تورط به في رضوخ لتغيير جنوني ، تفلتت معايير الستين بينه والتي آمن بها يومًا يوماً أمام ما يرضي فتن التخيل لسيدة تحاول تعويض ما فاتها وابن مهووس بالتحضر .

غادر كريم إلى بيت رفيق له تعارفا في السكن الجامعي وكوثر إلى شقتها المغبرة ، وهو إلى وحدةٍ هو الآن على متنها في طائرة تقله ، يبعث من مقعدها ، الخاص به ” إلى عزيزتي : كوثر ..

هكذا كان يجب علي أن أفعل كي نستعيد دفء أنفسنا رغم أن البرد الذي قد يدخلها يومًا لا يمكنه أن يخرج منها أبداً ”

لطيفة هيف