أثوابٌ من ورق “قصة”٢-٣

،،
الجزء الثاني

لماذ ترسل لنا الأحلام هيئاتها الجميلة بأصوات ميتة ، أنفق عليها الاستماع بؤس الجثة الـمُثقلة ،
صورة متحركة متيقظة جف عنها ماء الرؤية للحياة أتراها ذات العين ميته
أم تراها لغة الأحلام تأتي موحدةٌ تعلم الروح منطق التجاذب و خطأ الحصيلة ؟
لماذا لا تهدينا الاصوات صدقها في الأحلام ، في انطلاقها حدثا مسموع ؟

ضحك خالد و قال مابالك يا يمنى و أنا اعرفك متأملة متفائلة ، ايجاب الاشياء يأتيك أولا قبل سلبها ، اين ذهب معنى الحب عنك ؟ هو الحب يا يمنى ، هو الاحتياج هو توازي الاتزان و همس الأمل بـ بارقة ضوء تقشع الليل ،” تباشير ، تباشير ” هي الأحلام نكمل على سُلمها رسم المنارة ، قالها و تشاغل بأوراقه ، كي ينهي الحوار، ذهبت أناملها إلى حركتها الدؤوبة تلك التي يسيح فيها التأمل و التأمر بكلا بُعديه ، بين خصلات تنطلق هاربة كي تشرب الهواء بحرية الاِدراك و تعود مسترخيه ، و قد أخذ منها التريث المدروس نحوه البعيد و أمانيه الطائلة .
أكمل خالد تحديقه بها و تيقن من وصول كلامه لقلبها وليس لأذنها فقط ، خرج و تركها للكتب و للنافذة ، عمله و الذي يمشّط كل من وقت نهاره بإتجاهات مختلفة مابين مكاتب عدة يُشرف عليها، كان يعود و به من الانهاك ما يفسد ترف الأحاديث و التي لا تليق به مع يمنى ، فقط هو قعر الوسادة من يستحق ثقل راسه في ذلك الحين ، بقيت يمنى مع أشياء لا تُأرب ، مع فوحان مكشوف يحاكي القصص التي تعتلي رفوف هواجسها ، خمس سنين قضتها مع خالد مضت بتوكؤها المتراخي على طريق لم تتفقد غنج خلوه ، إلا الآن فاِنهاء الماجستير أخذ من الوحدة طريق انجاز مملؤ بالكائنات الملونة والبحوث الحية ، كانت تنام بعينين مغمضتين و رؤياها الملوحة في ساحة مضاءة تقرأُها السؤال عن الأصوات ، يمنى رغم كثافة الاِطلاع و التصفّح لم تصطد شيئا ما يفسر لها معنى تلك الخسارات اللغوية ، تمنت أن تقراء شيئا يشبه ذلك المشهد و تلك الإلتفاتة ، ” .

الافواه الافواه البكماء كانت تعني شيئا ” كانت تقولها بصوت مسموع عندما يمتص تفكيرها سفرا من التأمل هناك و “نظراتُهم كانت تُحيى بزمهرير حاجة ” ، هزتْ راسها رغبة في العودة للكتاب الـمُشرع أمام تقاطر أعينها ، تناولت منديلا جففت به ذقن حزنها ، و أمام اِلحاح مؤذي استعطفت جهازها المحمول في جلب رقم عمتها أم راضي ، اتصلتْ ، جاء ردها ” منو ؟ يمنى عيوني ، يت الساعة اللي ترنين عليّ فيها ؟ولهت عليج يا القاطعه ، ايش اخبارج ، طمنيني، ياحيا لله ذا الصوت “شيء ما مارس العنف على جسد كلماتها و اخرسها :”حياج عميمه ” ، ثم تخلت عنها الكلمات متواطئة مع التعابير القصيرة و التي خلفت صمتها على الـ” اشتقت لج ” و خلفها غرقت الأرض .
ردت ” دزي لي عنوانج اليديد و ساعة و أنا عندج ” اغلقت يمنى الخط و انتظرت الصباح و أرسلت عنوانها لعمتها، و بعد خروج خالد لعمله ، سمعت صوتا غريبا و كأنها ضربات يحتضنها سُلم الدّرج من ممر الشقق المتجه لمصعد في الزاوية ، فتحتْ الباب بحذر ، لمحت أكياسا مُفرغة تشرح فراغها المفاجئ للفضاء ، نظرتْ بتطاول يسحب الخطى الهادئة ، فيرتفع لها منظرٌ قعير أسفل الدّرج ، و بتدرج المقترب سمعت صوت بكاءٍ خفيض مدتْ عنق الفضول أكثر لتلتقط جسدا تكوم بنفضه البكاء ألما و خيبة ، عادت أركنت باب الشقة إلى مصرعه الأخير و هرعت إلى الطفل ، كان هو سيف ، هداف الفريق الحذق و نحيل ذاك الحال ” بسم الله ، بسم الله ، وين وجعك ؟” شد جسده رافضا اِقترابه منها “لا تخاف زي ماما أنا ” قالتها ، اتجهتْ لها كلتا عينيه الغارقة ، قال هي للشقة وأشار لـ (٤٠٣ ) كان هم اِيصالها أهم بكثير من وجعه و سقوطه ، لمت تلك الفواكة والخضار و وضعتها عند باب الشقة ، وهمت بدعوته للدخول و تفحُّص الجرح فختفى و ذاب نزولا في حلق ذلك السلم الطويل ، عادت و هي تحمل شعورا غريبا ، حدثتْ نفسها ” كم هو دقيق ساعد ذلك الطفل ” و كم تحمل عيناه من آسى تمنت أنها تمكنت من بث حنانها المتراكم في وحدتها على بؤسه المتعدد ، ادلفتْ الباب و اسندتْ ظهرها عليه بزحلقة هادئة أخذت معها كل مجادلة لـ ” لماذا ، لماذا و كأنها تشن حربها الغاضبة على حزن الأعين المحرومة ، في أن تأتي لسلامها هي ” وجلست متقرفصة الاِجابة خلف الباب .

(كان سيف هو أبن أخ البواب و كان يتيما و يعمل مع عمه في خدمة ساكني البناية عرفتْ هذا لاحقا ) فكانت مفاجئة إحساسها به في مكانه عند ذلك اللقاء الأول .

طُرق الباب بعدها بوقت قصير ، نهضتْ و فتحت لأم راض بعد أن طمأنها سماع صوتها “ترفع شهادتها بوحدانية الله و ان محمد رسوله كما عادتها عند همِّها ببداية ما ، فتحتْ يمنى الباب واِرتمت بشكل أرعب عمتها عليها ، تركتها تغرق و تغرق و أكرمتها بدموع أخرى فلم تكن أم راضي خالية ايضا من الأحزان ، ” خلاص عاد يا يمنى ، الدنيا ما تستاهل ، تعوذي من الشيطان و ذكريّ الله ، يايه ويايبه معاي لج اكله تحبينها ، معمول ، صِبريّ و ينه ؟ افا شكل بعده عند الباب ، ضحكت ام راضي و ضحكت يمنى .

عاد خالد مساءً وجد يمنى مشعة ليس كعادتها ، كان لــ أم راضي فضل في ذلك سكبتْ في فؤاد يمنى آمالا و طمحات لحياة أجمل ،” راجعي طبيبة النساء ، فرحي عيونا بصغروني يملئ البيت ”
هذه العبارة احضرت انقى أكسجين الكون إلى رئتها ، جلبت تخمينا مرضيا لتلك الكلمات الفاقدة لصوتها .
كان اِلتماع ألوانها في ذلك المساء اشبه بفراشة خلعت يرقتها الجافة وهبتْ طليقة في الأرجاء تتباهى و تعلن فتوتها على بستان ربيعي غرد له الفصل باِخضرار المفاتن ،
همست : خالد أريد طفلا ، أملا في حياة ،
ضحك خالد وقال صدقت يا فولتير ” اهم قرار تتخذه هو أن تكون ذا مزاج رائع !” و انت تلك الرائعة هذا المساء و أخذ يتناقز بمزاح أمامها وهي تلكِزه تورعا للسماع و حثا الانصات الجاد ، ابتعد خالد باِبتسامة و ذكرى أعادته لزمن مرّ ، كان أملها الذي تطلب على مسافة حيرة قد تملكته منذ السنة غير أنه خشي جرحها ، فتصريح الطبيبة الأخير قد رفع عن أناقة الطلب هذا كل روائح الحُسن و جعلته في ردم الدكانة و وسع السواد منذ ثلاث سنوات .

” نسبة ضئيلة هي اِحتمال حدوث الحمل الطبيعي لدى زوجتك ، هي تحتاج وقتا طائلا في المعالجة ” ، حصد خالد هذه النتيجة إثر اِستطبابٍ قديم خضعت يمنى لفحوص اثناءه و حرص خالد على تزويده بسبب تأخر الحمل ، كانت ناحية لم تطرئ على بال يمنى آن ذاك ، و لم يثر خالد ألما و لا خبرا لـِما قد سمع في وجه يمنى ، لكنها كانت في أرجحة الإحساس بأن شيئا ما ينقص حياتهما و مضت حاملة هموم الدراسة و تفاصيل التقدم بها ، حتى ازفت ساعة الصراحة والتصريح ، وعدها بالذهاب يوم اجازته للعيادة .

و في خفية هناك ، بين غيمات الطفل اليتيم ينهمرُ شوقٌ عظيم و ألفةً متسربة بين حنايا سيف ليمنى ، فرائحتها البيضاء تلك والتي فاحت من جُملها العفوية ، كانت كفيلة بايجاد جهة لمشاعر مُكبلة فاضت بها جدران نبضه الصغير و الجافة به رياح الحياة ، دلقها تبعا و غرق في تسربها و بين حين وآخر كان يقترب من فرجة باب الشقة و المغلق بإلتقائه حلقه ، ليدس انفه و يأخذ نفسا عميقا من رائحتها ثم يذهب ، جنون الرائحة المتسللة لرئته كانت تهيئ حضور” أمه ” في شخص يمنى ، فمن العطور والروائح ما جسد دما ولحما و كون روحا أيضا .

يتبع ..

 

،،
الجزء الثالث ..
خرج خالد ويمنى قاصدين العيادة ، همّ خالد بفتح باب السيارة و صعودها ، و طارت يد يمنى في تشريع بابها المقابل ، همت بالصعود ، فاذا باِصتدام كرةٍ حرة ، اثارت عبرة الأرض و انزوت بين بتلات هندامها الذي اسكن التفافها بتوقف مفاجئ ، وزعتْ يمنى اِنتباهها على جهةٍ أتت منها الكرة و على هلعٍ من إلتصاق شوائب الاِنتثار بجلبابها الداكن ، و ما أن تحققت من هدوء الحدث حتى هبطت وداعة السماء على الأرض و خيمت على المكان ، ذلك الطفل و خلفه الوجوه الربيعية ؛ التقط الكرة بحركة متسارعة و خفيفة و قال بنبرة مطمئنة إنفلتَ عنها تعبير عفوي ذاهبٌ لطمأنة صحبه ، “لا تخافوا أنها أمي لن تأخذها” ثم تلعثم بتجمد ، لعثمة المتدارك لخطئه و سرح قبضته عن جنبات الكره بطريقة مُتكهربة وتركها متدحرجة إلى توقفها الهادئ ، ثم ركض ركضا مواريا و ترك الوجوه خلفه مشدوة ، صنع التعجب بها ما صنع ، يمنى ظلت واقفة و الأطفال تفرقوا و بتساؤل يتسرب من ملامحهم سمعت كلمات الحلم الأبكم ، كيف ذلك ؟
يقول هي أمه ؟؟!!
عاد ليمنى كلام سيف ” أنها أمي .. أمي … أمي ….
و اخذت تكررها و صعدت السيارة ”
يبنما خالد في حديث عبر هاتفه يقول “الأمل كالملح لا يغذي لكنه يعطي للخبز طعماً “* يا رجل …
تعلقتْ يمنى بسيف و عرفتْ بالرسائل والدها عليه ، و لم تتركه يوما في شوارع الحي بلا حرف يعتصر و هدف تكتبُ دمع فرحه و رائحة أمانه .
أحدى رسائلها ..

أهجس عن التشابة و كيف للمشاعر أن تصنع منا اثنين تواجد الثمانِ والثلاثون من اشباههم فيهما يا سيف .
غير أنك أرض تُسقى و أنا غيما أفضى !
لا أعلم لم يحاصرني غثيان الكتابة عندما أفتح قلب الدفتر و أهم بالكتابة لوالدي ، ربما لتحشُّدٍ لما يُرى بسجيته المكرره على شهيةٍ لا تتقبل حرمانا مبسوطةً ذراعيه في وجه ازدهار ما ، آراه فيك .

جريئة هي المشاعر يا أبي جريئة بجروح و فضحُها يؤلم الكتوّم ، و أنا قليلة حيلة ايزاء فيضها ، فـ ليس من حسنات الحب دائما يا ابي أن يفيض ، فــ اليمُّ جميلا بضفاف شاحذ، و قلبي في العشق الواسع مازال أدنى من الشغف و أقل من الولع ، فلم يتسنَّ للنبض بعد اِتخاذ ولادة حيه تسرح ماضيه ، اِبتعادك ، رحيلك ، وداعك الذي لم تكتمل لي فيه صورة وعيّ واحدة تمسح دمع الهزائم المترامية ، هكذا هي اللقاءات الاخيرة يـا كل اِحتياجي جوفها شرس ! شرس ، تحط بضوضاء الــ لا الحادة !

فتتقلب بمخالبها في أعناق الحديث والنظرة و اللمسة الأخيرة الممنوعة ، وهذا ” السيف ” الطفل الذي صنع مني أما، على غرر إحساس أعرف أنه المأهول بالفراغ فما زال جوفي أنا ايضا ضامئٌ لم تملؤه روحا حية تأتي لتشبهك أنت ، غير أني أمتن لفرقعة أحدثها فيّ جعلتني أصيح في وجه الخوف ” أن أذهب عني فلدي قلب صغير ، قلب فقير منحني صدقه رائحة العشاق ، لأنهم من يمنحون رغم فقرهم ترفا عاطفي لا يوجد ما يقدمون من إغراءات سواه” كما قال جبران ، نبتة الأصيص يا أبي تحمل لي تلاحق الصورة في وحدتي ، تكاثر وجعها اليوم في عيني وأتفقت أنا و خالد أن نكسر ذلك الأصيص و نحوله زينة لحواف اصيص أكبر يجمع ما يسع الثلاث و الاربع ففي التجمّع ألفة تخذل و عود الخوف .
أبي ، أعذر للزوجة عقلي و تلك الانزلاقات في وحل المشاعرالآدمية التي قد تغضبك مني ، اعذرني ف غياهب الغياب تقدح في قرح معدتي و أقف على وجعها بجنون المتقيئ حبرا .

اشتقت لك جدا جدا .
يمنى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*جوزيه ساراماجو

انتهى

.

 

 

 
.

أثوابٌ من ورق “قصة”١

،،

الجزء الاول
متى ما كان عبور الحياة ذا اِنعطافات مفاجئة ، تختبئ فيها أرواح اِنغمست حد الاحتياج الرضْيّ ، ثم و بدون سابق انذار ترحل ، تغادر ، متأبطة بؤرة الفرح ، ذاهبة في سكون الإساة الرغِدة ، فسيكون حقا لتلك الأجساد -والتي على قيد حياة انتصبتْ ، ترمي بنظرها في جوف انتظار مترامي -، أن تجوفها رياح الطُرق و رجفات الصدف و أوهام الوصول ، هو اليوم يدير بلادة الشعور و الذي يكتبنا آناً مصون و نحن لها في الحذر مذعنين ، كاتبون .
” كم يجب أن أحترز كي أعيش ، كم يجب أن أغفل كي أتوسع في وجه نفسي الأمارة بالتوجس ؟! ” سألتْ حزنها يمنى …
ثم ،،
ألقتْ بتنهيدةٍ عميقةٍ من فرجة النافذة ، التي أطرتْ منظرا لأطفال الحي ، و هم يجولون في عنق شارع ضيق ، خنقه التراص المحكم لبنايات قديمة لا ترتفع كثيرا، سال البؤس على اساريرها و الفقر من بين صمتها العفيف ، يتراسلون كرة بين اضطراب جريهم و ضربات أقدامهم في اِستناد يوازن قامة الركل ، والتي تتمايل يمنة ويسره كي تستحوذ على وجهةٍ صحيحة يتم من خلالها قنص الهدف و تحقيقَ الضربة التي يُعدّ بها و يُؤخذ بتسديدها رقما في الحسبان .
كانت يمنى قد حفظتْ اسماء هؤلاء الأطفال و ايضا وجّهاتُ منازلهم بعد الغروب ، مع أنها من سكان الحي الجدد ، أكثر ما أراح يمنى للإنتقال لتلك الشقة هي نافذتها المطلة والتي تتغذى على عشيةٍ يمرح ُبها تمعنَ النهار في عينيها ، يودع شمسهُ على هتفات و ضحكات لاولئك الصبية ، بدس بهجة ساهمة في نظرتها المرتمية بوسع الشعور والتخلي عنه ، الذي يصفّد الوجوه أمام اِطلالة هي الِاحتياج ، كماءٍ يتشوقه ضمئ الشفاه ، لم يرق كثيرا ذلك الحي لخالد ، لكن يمنى تشبثت به بعد أول صعود فحص الغروب منظراً و المدينة إبنةً وحيدة .
قال لها : أنا اصنفه مبنى يقع بين أزقة ، لا أعلم صراحةً كيف نبت بضخامته بينها !؟
– كانت تعلم يمنى أن خالدا ، واجه اِصرارها بالاستسلام في السكنى و أضمر تذمرا غلب انشراحهُ لمزايا المبنى الخدميّة و حداثته التصميمية .
لم تجبه !
و لم ينتظر منها إجابة ، فقط ،
رفعتْ تتابُعاً لأناملها المتراصة والأخذةُ يتلابيب شَعرها مرورا خجلا فوق اُذنها لتودْعها خُصلا في مهب حيرة خلفها ، و تحدق بصمت في ملامح عتمة فاحت من رائحة دفينة ، و التي كانت تمتعض أحيانا باِنتشار لألم يحفر بنقصها، فتسري مسرى المرض في جسدٍ تداعت له سائر الاعضاء ، و أحيانا تداوي فراغا كبرتْ به الهالة ، بأنها ستمتلئ و تعود بهيئة أخرى مُرضيه كما علمها تصوف جلال الدين الرومي .
قضتْ الوحشة مع يمنى زمنا طويلا ، فكانت تُحدثها كأُخت تفهم هيئة الفراغ و كعدوة أحيانا تشاكسها الخلو بتصحره ، فقد شاءت عنايةٌ اِلاهيةٌ لها أن تعيش بثمن ولادة دفعت بهلاك روح تضعُها ، فعاشت في حضن والدها الصحفي و الذي كان يحب عمله جداً، يميل للعزلة و حبِ عطاء القلم ، الكتابة عادةً ما كانت تسرق كي تنفق ، و كم رأت فيها يمنى ، التماشي الذي يرمم فجوات الآخرين في بؤس تلاشي الكاتب و حياته .
جرأة القلم الصادق اسقطتْ المحبرة عن حواف الصمود و جعلتها مُغتسَلا يسكب الطهر على جثةٍ مغتالة ، قُتل والد يمنى بشكل يعتم الحقيقة ، فمازال الموت في البلاد العربية يوزّع حسب الشارع و الطائفة و يحمل مع رخصه ذلك الهزلي أساليب مخمورة ، نُقعَ في خُبثها خمدُ الأقلام و الفتاكة جدا في نظرهم بأجسادٍ عُزْلٌ فِكرُها و سجينة أرآها وكان استطبابها في تقديرهم هو تسريب الموت المهدرج الذي سيكون لها نصير .

ذروةُ هلعٍ ذابت في دم يمنى بعد مقتل والدها ، وفقدٌ من النوع الثقيل على القلب ، أخلى حياة يمنى من مَلكةِ الاِبتسام ، و أنمى خوفها بقوى شتى ، شيّدتْ له العزلة ما تنفلت أمامه ردة الفعل المعاكسة ، بأن تكمل تقدمها العلمي كمواجهة تمزق رداء الترويع بشكل علني ، يضمن المحايدة لفرائس مرتعدة ، تشق بالسلام طريقا متسع ، مضاءً ، يسكب من أناته سطوعا على زاوية الليل ، الذي يرتق هوة في أرض داخلية ، فتكتب الرسائل التي لا تصل و تنظّم القصائد التي لا تُقرأ تعايُشا مع تورمٍ كبديّ في ديجور خبوء فجره .

عمتها أم راضي هي من قامت برعايتها في صغرها ، تلك المرأة المحشوة لحما و عاطفة و أمراضا مزمنة ، تربت يمنى على فضائل الخُلق على حب الكتب و القراءة في جو غلب عليه الهدوء و ما يتبعه من رتابة الصمت ، خلف غياب أبيها وجدت في كل كتاب حياة ، نبض ، عالم ٌيثرثر بصوت الحروف والكلمات ، أَسر لغوي ، و أُسرٌ تتعايش بالسطور ، كانت تتشكل أمامها الكتب في اصطفاف على الارفف بشكل بيوت وشرفات كل بيت له سره و قصته ،اِكتماله و نقصه ، شتاته و اعتصامه ، إلى درجة أنها شكتْ في الوجودية و قصتها معها في الواقع الملموس ، أتقن بها الهروب مضيه ، جريه ، لهثه والمتيبسة له شفاه الحب و الإعتراف .
في إجازاتها الصيفية والتي عاصرت حياة جدتها حضيت بإرتواء مختلف من نبع مختلف يقضي بحمل الحقائب لمدن الشمال حيث جدها و جدتها ، و التي تشتم فيهما رائحة غريبة ربما هي رائحة الأم التي لم تعرفها غير أن لهما عبيرٌ يُنهض ما قد أختلف ، كانت ترى تقرّب جدّها و حديثه المتواصل معها شيء ممتع ، يمكّن من ممارسة حوار دافئ يمضي ب النقاشات و الآراء مُضيا موزون بثقافة تساوت ما بين اِطلاعٍ يقَرأ و معاشرة معاشة ، و تشاركت مع جدّتها الذهاب للأفراح و المناسبات والتي تخلط النساء و التقاليد في قوالب فطرية شكّلها العُرف الإصطناعي ، عشقتْ في ذلك التجمّع الذي يخبرها كم هي في الأقاصي جسوراً من التعارف السهل جداً ، بالفتيات القرويات و اللاتي مزجن العفوية بالجُرئة ، رامين كل الحسابات خلف ضحكاتهن و احاديثهن اللئيمة في عيوب ذاك ، و شماتة يُلحقونها بتلك و غمزة تشرع اِعجابها بأولئك و سخرية تُرمى خلف ناصحة قد أرهقها عوج حالهن ، خفة الحياة و ظرافتها على حبل لقاءاتها بهم كانت طفولة ترسم ملامحها بالِاقبال ، و التحليق بذات البراءة متخلية عن ما قد يشوب ، يمنى كان يصنع لها الانتظار شيئا جميلاً ، شيئا ممتعا تسعى جاهدة للحصول عليه ، لم يأتي تطفل السؤال إليها يوما ، لم القدر شكّل لها وحدةً بهذا الوسع ؟! وحشة تعود إليها رغم لطافة الوجوه المزدحمة .!

منابع الخوف و التي كانت ترسل دفقاتها إلى قلب صغير هي ذاتها من ذبل الزهر على حوافها بمراحل الفراق المتلاحق والذي أفقد التورد إمتلأ وجنّه و اِلتماع الندى على صباحاته ، سرب الماء سريعا في وقت مازال اليفاع يبحث عن صباه في بستان .

(رأت يوما في منامها أنها تتوسط أطفالا ، يتضح من حركتهم حولها و انفراج افواههم المتواصل بفواصل نطق ما ، وهم غمرة ، ما بين ملتهين عنها و ناظرين لها انهم بفوضى اصوات و حركة لكنها لم تكن تسمع شيئا ، و كانت المشدوة بينهم تشتاق لسماع ما يقولون ) ، و مضى ذلك الحلم في تكراره عليها يرسل حيرة تفسره ما بين ذهاب يوقره و جيئة تقر بقلقه ، نبت سؤالا ذات صباح مُجاز تأخرت في صحوه ، أيكون هؤلاء أخوتي الذين أبكم الموت مجيئهم بنهاية أنا من ورثتها لأمي ؟!
طرق خالد الطاولة بمفاصل أصابعه و قال : نحن هنا ، نظرت له يمنى مرسلة ابتسامة وضائه تسربت من خجل سهومها و قالت : بل هنا و أشارت بيد مسرعة إلى جهة صدرها الايسر .
قال : اين ذهبتِ ؟
درتْ : في جب سؤال .
– هاتِ .

يتبع …

حبٌ جزيل

 

هناك …
قصيدة غنت
و سحابة أمطرت
ابتلال الصوت انطق عجز الكلام
و صدفة قالت : أني هنا ؟
هناك ..
غوث إلتهف

هناك ..
مسافة سحقها عمى النبض و وصل

هناك ..
رجفة بفم الدوران
و أنا امراة الدوائر المتسعة
التي يتفرد بها شرود الجهات
هناك ..
خلف الستائر البيضاء
و الرياح المهربة
حضن كرر العمر وجعين
ايقضه على سرير الغيّ
و موت حي
يلتفت ..
يقرأ لافتات التمحور و يتوه

هناك ..
لا نسيان يتكئ
و لا ذاكرة تتعرق من تعب
جفاف الإنفلات ينثر كله في مهب ، يُلاشيّ اليباس

هناك ..
حياة مختبئه
تعيش بكل موت جاد

هناك ..
غصة تتمرغ في حلق الصمت
و قلب لازال يستأنس حمرته و يضخ

هناك ..
تفرع يتشظى
يوازي نزع الروح و غرس الحنظلة

هناك ..
سبيل لا يعرف العبور
و حتى وزن الخطوات لم يعد يُجيّد حُسن تقنين يسنده

هناك ..
دفن و زيارة قبر
و حرق ذكريات
و نهر

هناك ..
نهاية تقصم ظهر النظر
تسكت الكلمات
فوق قلب احتجب و احتضر
و بعث كله صمتا ينحدر .

 

 

توطّن !

بالدوران الأبيض تضيق مساحاتي
و أدور بفوضى غيابك سيدة التَخَلَّصّ المذنب
ابحث عن ..
و لا أجد أبدا ..
ألتف مُجددا ..
و لا أظفر أمداً ..
ألفظ نداءات رطبة لا زال اسمك بطرف خيطها
السماء تستجيب قطعاً
تلتحف قطراتها المكثّفة بلا بكاء
و تأتي بغير أذّرع تلم ، تحضن ، تبث مآوى
عقلي في بئر مدينة شردتْ عيناه
قضمتْ نور الفوهة بجوع الاِقتران
و قصتْ الخطوة عن مدّةٍ قد تُخرجها
عن خريطة قد تهديها جهة اِلتحاق في نجاه

اتيان التيه في شوارع واسعة
يقذف بقَدم التجوال إلى معاودة زائغة
برزت شفاهها بشُدهةِ ضرير أبصر
تقرأ الذهاب عودة
و الوثوب  قدوم
و كل المكان هو المكان
كل اليقين هو هباءٌ قلق

يدك بعيدة و صدرك على مسافة تحنان يختفي
و لسان الهوى فقد الطائلة منه
لا تأبه بصمتي و تنثر مغلف الضباب خلفك
فمكوث اصابعي مبتورةً قد أشاع أناشيد مالحة
كتب على منضدة الخشب أحرفا مشوهة
قرب محطة النزع الثلاثي
رحيلك و كُبر المدينة و تراكم الصوت في صمتي

اعلم أن اِلتفافي سيكلفني الكثير من الاِتزان
يحتم عليّ وقفة تطوّل ، رجاؤها جهة إشارة صعرت خدها و ذهبت
و بحث عن كومة طين تشبه لزب تشكّلي المنفلت في البحث عني
لتسكن الاشياء نفسها و تموت بصمت الذوبان

 

لطيفة القحطاني