أثوابٌ من ورق “قصة”٢-٣

،،
الجزء الثاني

لماذ ترسل لنا الأحلام هيئاتها الجميلة بأصوات ميتة ، أنفق عليها الاستماع بؤس الجثة الـمُثقلة ،
صورة متحركة متيقظة جف عنها ماء الرؤية للحياة أتراها ذات العين ميته
أم تراها لغة الأحلام تأتي موحدةٌ تعلم الروح منطق التجاذب و خطأ الحصيلة ؟
لماذا لا تهدينا الاصوات صدقها في الأحلام ، في انطلاقها حدثا مسموع ؟

ضحك خالد و قال مابالك يا يمنى و أنا اعرفك متأملة متفائلة ، ايجاب الاشياء يأتيك أولا قبل سلبها ، اين ذهب معنى الحب عنك ؟ هو الحب يا يمنى ، هو الاحتياج هو توازي الاتزان و همس الأمل بـ بارقة ضوء تقشع الليل ،” تباشير ، تباشير ” هي الأحلام نكمل على سُلمها رسم المنارة ، قالها و تشاغل بأوراقه ، كي ينهي الحوار، ذهبت أناملها إلى حركتها الدؤوبة تلك التي يسيح فيها التأمل و التأمر بكلا بُعديه ، بين خصلات تنطلق هاربة كي تشرب الهواء بحرية الاِدراك و تعود مسترخيه ، و قد أخذ منها التريث المدروس نحوه البعيد و أمانيه الطائلة .
أكمل خالد تحديقه بها و تيقن من وصول كلامه لقلبها وليس لأذنها فقط ، خرج و تركها للكتب و للنافذة ، عمله و الذي يمشّط كل من وقت نهاره بإتجاهات مختلفة مابين مكاتب عدة يُشرف عليها، كان يعود و به من الانهاك ما يفسد ترف الأحاديث و التي لا تليق به مع يمنى ، فقط هو قعر الوسادة من يستحق ثقل راسه في ذلك الحين ، بقيت يمنى مع أشياء لا تُأرب ، مع فوحان مكشوف يحاكي القصص التي تعتلي رفوف هواجسها ، خمس سنين قضتها مع خالد مضت بتوكؤها المتراخي على طريق لم تتفقد غنج خلوه ، إلا الآن فاِنهاء الماجستير أخذ من الوحدة طريق انجاز مملؤ بالكائنات الملونة والبحوث الحية ، كانت تنام بعينين مغمضتين و رؤياها الملوحة في ساحة مضاءة تقرأُها السؤال عن الأصوات ، يمنى رغم كثافة الاِطلاع و التصفّح لم تصطد شيئا ما يفسر لها معنى تلك الخسارات اللغوية ، تمنت أن تقراء شيئا يشبه ذلك المشهد و تلك الإلتفاتة ، ” .

الافواه الافواه البكماء كانت تعني شيئا ” كانت تقولها بصوت مسموع عندما يمتص تفكيرها سفرا من التأمل هناك و “نظراتُهم كانت تُحيى بزمهرير حاجة ” ، هزتْ راسها رغبة في العودة للكتاب الـمُشرع أمام تقاطر أعينها ، تناولت منديلا جففت به ذقن حزنها ، و أمام اِلحاح مؤذي استعطفت جهازها المحمول في جلب رقم عمتها أم راضي ، اتصلتْ ، جاء ردها ” منو ؟ يمنى عيوني ، يت الساعة اللي ترنين عليّ فيها ؟ولهت عليج يا القاطعه ، ايش اخبارج ، طمنيني، ياحيا لله ذا الصوت “شيء ما مارس العنف على جسد كلماتها و اخرسها :”حياج عميمه ” ، ثم تخلت عنها الكلمات متواطئة مع التعابير القصيرة و التي خلفت صمتها على الـ” اشتقت لج ” و خلفها غرقت الأرض .
ردت ” دزي لي عنوانج اليديد و ساعة و أنا عندج ” اغلقت يمنى الخط و انتظرت الصباح و أرسلت عنوانها لعمتها، و بعد خروج خالد لعمله ، سمعت صوتا غريبا و كأنها ضربات يحتضنها سُلم الدّرج من ممر الشقق المتجه لمصعد في الزاوية ، فتحتْ الباب بحذر ، لمحت أكياسا مُفرغة تشرح فراغها المفاجئ للفضاء ، نظرتْ بتطاول يسحب الخطى الهادئة ، فيرتفع لها منظرٌ قعير أسفل الدّرج ، و بتدرج المقترب سمعت صوت بكاءٍ خفيض مدتْ عنق الفضول أكثر لتلتقط جسدا تكوم بنفضه البكاء ألما و خيبة ، عادت أركنت باب الشقة إلى مصرعه الأخير و هرعت إلى الطفل ، كان هو سيف ، هداف الفريق الحذق و نحيل ذاك الحال ” بسم الله ، بسم الله ، وين وجعك ؟” شد جسده رافضا اِقترابه منها “لا تخاف زي ماما أنا ” قالتها ، اتجهتْ لها كلتا عينيه الغارقة ، قال هي للشقة وأشار لـ (٤٠٣ ) كان هم اِيصالها أهم بكثير من وجعه و سقوطه ، لمت تلك الفواكة والخضار و وضعتها عند باب الشقة ، وهمت بدعوته للدخول و تفحُّص الجرح فختفى و ذاب نزولا في حلق ذلك السلم الطويل ، عادت و هي تحمل شعورا غريبا ، حدثتْ نفسها ” كم هو دقيق ساعد ذلك الطفل ” و كم تحمل عيناه من آسى تمنت أنها تمكنت من بث حنانها المتراكم في وحدتها على بؤسه المتعدد ، ادلفتْ الباب و اسندتْ ظهرها عليه بزحلقة هادئة أخذت معها كل مجادلة لـ ” لماذا ، لماذا و كأنها تشن حربها الغاضبة على حزن الأعين المحرومة ، في أن تأتي لسلامها هي ” وجلست متقرفصة الاِجابة خلف الباب .

(كان سيف هو أبن أخ البواب و كان يتيما و يعمل مع عمه في خدمة ساكني البناية عرفتْ هذا لاحقا ) فكانت مفاجئة إحساسها به في مكانه عند ذلك اللقاء الأول .

طُرق الباب بعدها بوقت قصير ، نهضتْ و فتحت لأم راض بعد أن طمأنها سماع صوتها “ترفع شهادتها بوحدانية الله و ان محمد رسوله كما عادتها عند همِّها ببداية ما ، فتحتْ يمنى الباب واِرتمت بشكل أرعب عمتها عليها ، تركتها تغرق و تغرق و أكرمتها بدموع أخرى فلم تكن أم راضي خالية ايضا من الأحزان ، ” خلاص عاد يا يمنى ، الدنيا ما تستاهل ، تعوذي من الشيطان و ذكريّ الله ، يايه ويايبه معاي لج اكله تحبينها ، معمول ، صِبريّ و ينه ؟ افا شكل بعده عند الباب ، ضحكت ام راضي و ضحكت يمنى .

عاد خالد مساءً وجد يمنى مشعة ليس كعادتها ، كان لــ أم راضي فضل في ذلك سكبتْ في فؤاد يمنى آمالا و طمحات لحياة أجمل ،” راجعي طبيبة النساء ، فرحي عيونا بصغروني يملئ البيت ”
هذه العبارة احضرت انقى أكسجين الكون إلى رئتها ، جلبت تخمينا مرضيا لتلك الكلمات الفاقدة لصوتها .
كان اِلتماع ألوانها في ذلك المساء اشبه بفراشة خلعت يرقتها الجافة وهبتْ طليقة في الأرجاء تتباهى و تعلن فتوتها على بستان ربيعي غرد له الفصل باِخضرار المفاتن ،
همست : خالد أريد طفلا ، أملا في حياة ،
ضحك خالد وقال صدقت يا فولتير ” اهم قرار تتخذه هو أن تكون ذا مزاج رائع !” و انت تلك الرائعة هذا المساء و أخذ يتناقز بمزاح أمامها وهي تلكِزه تورعا للسماع و حثا الانصات الجاد ، ابتعد خالد باِبتسامة و ذكرى أعادته لزمن مرّ ، كان أملها الذي تطلب على مسافة حيرة قد تملكته منذ السنة غير أنه خشي جرحها ، فتصريح الطبيبة الأخير قد رفع عن أناقة الطلب هذا كل روائح الحُسن و جعلته في ردم الدكانة و وسع السواد منذ ثلاث سنوات .

” نسبة ضئيلة هي اِحتمال حدوث الحمل الطبيعي لدى زوجتك ، هي تحتاج وقتا طائلا في المعالجة ” ، حصد خالد هذه النتيجة إثر اِستطبابٍ قديم خضعت يمنى لفحوص اثناءه و حرص خالد على تزويده بسبب تأخر الحمل ، كانت ناحية لم تطرئ على بال يمنى آن ذاك ، و لم يثر خالد ألما و لا خبرا لـِما قد سمع في وجه يمنى ، لكنها كانت في أرجحة الإحساس بأن شيئا ما ينقص حياتهما و مضت حاملة هموم الدراسة و تفاصيل التقدم بها ، حتى ازفت ساعة الصراحة والتصريح ، وعدها بالذهاب يوم اجازته للعيادة .

و في خفية هناك ، بين غيمات الطفل اليتيم ينهمرُ شوقٌ عظيم و ألفةً متسربة بين حنايا سيف ليمنى ، فرائحتها البيضاء تلك والتي فاحت من جُملها العفوية ، كانت كفيلة بايجاد جهة لمشاعر مُكبلة فاضت بها جدران نبضه الصغير و الجافة به رياح الحياة ، دلقها تبعا و غرق في تسربها و بين حين وآخر كان يقترب من فرجة باب الشقة و المغلق بإلتقائه حلقه ، ليدس انفه و يأخذ نفسا عميقا من رائحتها ثم يذهب ، جنون الرائحة المتسللة لرئته كانت تهيئ حضور” أمه ” في شخص يمنى ، فمن العطور والروائح ما جسد دما ولحما و كون روحا أيضا .

يتبع ..

 

،،
الجزء الثالث ..
خرج خالد ويمنى قاصدين العيادة ، همّ خالد بفتح باب السيارة و صعودها ، و طارت يد يمنى في تشريع بابها المقابل ، همت بالصعود ، فاذا باِصتدام كرةٍ حرة ، اثارت عبرة الأرض و انزوت بين بتلات هندامها الذي اسكن التفافها بتوقف مفاجئ ، وزعتْ يمنى اِنتباهها على جهةٍ أتت منها الكرة و على هلعٍ من إلتصاق شوائب الاِنتثار بجلبابها الداكن ، و ما أن تحققت من هدوء الحدث حتى هبطت وداعة السماء على الأرض و خيمت على المكان ، ذلك الطفل و خلفه الوجوه الربيعية ؛ التقط الكرة بحركة متسارعة و خفيفة و قال بنبرة مطمئنة إنفلتَ عنها تعبير عفوي ذاهبٌ لطمأنة صحبه ، “لا تخافوا أنها أمي لن تأخذها” ثم تلعثم بتجمد ، لعثمة المتدارك لخطئه و سرح قبضته عن جنبات الكره بطريقة مُتكهربة وتركها متدحرجة إلى توقفها الهادئ ، ثم ركض ركضا مواريا و ترك الوجوه خلفه مشدوة ، صنع التعجب بها ما صنع ، يمنى ظلت واقفة و الأطفال تفرقوا و بتساؤل يتسرب من ملامحهم سمعت كلمات الحلم الأبكم ، كيف ذلك ؟
يقول هي أمه ؟؟!!
عاد ليمنى كلام سيف ” أنها أمي .. أمي … أمي ….
و اخذت تكررها و صعدت السيارة ”
يبنما خالد في حديث عبر هاتفه يقول “الأمل كالملح لا يغذي لكنه يعطي للخبز طعماً “* يا رجل …
تعلقتْ يمنى بسيف و عرفتْ بالرسائل والدها عليه ، و لم تتركه يوما في شوارع الحي بلا حرف يعتصر و هدف تكتبُ دمع فرحه و رائحة أمانه .
أحدى رسائلها ..

أهجس عن التشابة و كيف للمشاعر أن تصنع منا اثنين تواجد الثمانِ والثلاثون من اشباههم فيهما يا سيف .
غير أنك أرض تُسقى و أنا غيما أفضى !
لا أعلم لم يحاصرني غثيان الكتابة عندما أفتح قلب الدفتر و أهم بالكتابة لوالدي ، ربما لتحشُّدٍ لما يُرى بسجيته المكرره على شهيةٍ لا تتقبل حرمانا مبسوطةً ذراعيه في وجه ازدهار ما ، آراه فيك .

جريئة هي المشاعر يا أبي جريئة بجروح و فضحُها يؤلم الكتوّم ، و أنا قليلة حيلة ايزاء فيضها ، فـ ليس من حسنات الحب دائما يا ابي أن يفيض ، فــ اليمُّ جميلا بضفاف شاحذ، و قلبي في العشق الواسع مازال أدنى من الشغف و أقل من الولع ، فلم يتسنَّ للنبض بعد اِتخاذ ولادة حيه تسرح ماضيه ، اِبتعادك ، رحيلك ، وداعك الذي لم تكتمل لي فيه صورة وعيّ واحدة تمسح دمع الهزائم المترامية ، هكذا هي اللقاءات الاخيرة يـا كل اِحتياجي جوفها شرس ! شرس ، تحط بضوضاء الــ لا الحادة !

فتتقلب بمخالبها في أعناق الحديث والنظرة و اللمسة الأخيرة الممنوعة ، وهذا ” السيف ” الطفل الذي صنع مني أما، على غرر إحساس أعرف أنه المأهول بالفراغ فما زال جوفي أنا ايضا ضامئٌ لم تملؤه روحا حية تأتي لتشبهك أنت ، غير أني أمتن لفرقعة أحدثها فيّ جعلتني أصيح في وجه الخوف ” أن أذهب عني فلدي قلب صغير ، قلب فقير منحني صدقه رائحة العشاق ، لأنهم من يمنحون رغم فقرهم ترفا عاطفي لا يوجد ما يقدمون من إغراءات سواه” كما قال جبران ، نبتة الأصيص يا أبي تحمل لي تلاحق الصورة في وحدتي ، تكاثر وجعها اليوم في عيني وأتفقت أنا و خالد أن نكسر ذلك الأصيص و نحوله زينة لحواف اصيص أكبر يجمع ما يسع الثلاث و الاربع ففي التجمّع ألفة تخذل و عود الخوف .
أبي ، أعذر للزوجة عقلي و تلك الانزلاقات في وحل المشاعرالآدمية التي قد تغضبك مني ، اعذرني ف غياهب الغياب تقدح في قرح معدتي و أقف على وجعها بجنون المتقيئ حبرا .

اشتقت لك جدا جدا .
يمنى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*جوزيه ساراماجو

انتهى

.

 

 

 
.

اكتب تعليقًا